تحوّلت الأفران في لبنان إلى حلبات مصارعة، فمن تلاسن بشأن أسبقية الحصول على ربطة خبز إلى تشابك بالأيدي وضرب بالعصي والحجارة، إلى أن وصل الأمر إلى إطلاق نار، مخلفا سقوط عدد من الجرحى أثناء محاولتهم شراء ربطة خبز، من دون أن يتمكنوا من الحصول حتى على رغيف واحد.
المشاهد المروّعة المتنقلة من فرن إلى آخر، دفعت نقابات المخابز والأفران إلى المطالبة بـ”ضرورة تأمين الحماية الأمنية للأفران التي تعمل وتشهد طوابير أمامها ما يعرضها لمشاكل مع المحتشدين، وذلك لمنع حصول صدامات”، محذرة في بيان من أنها “لن تستمر بالعمل وسط الفوضى والطوابير التي تمنعها من القيام بدورها دون مشاكل في هذه الفترة الدقيقة التي تمر بها البلاد”.
زحمة سير تشهدها الشوارع التي تتواجد فيها الأفران التي لا تزال تفتح أبوابها، نتيجة الطوابيرالتي تمتد لعشرات الأمتار، حيث يفرض على “الزبون” الانتظار لساعات كي يحصل على ربطة خبز واحدة إن تمكّن من ذلك، وكما جرت العادة في لبنان سرعان ما ظهرت سوق سوداء، تباع فيها ربطة الخبز 820 غرام بسعر يتراوح بين 25 ألف ليرة إلى 30 ألف ليرة، وذلك بدلاً من 13 ألف ليرة كما حددته وزارة الاقتصاد.
لا تكاد تختفي الطوابير من أمام الأفران حتى تظهر من جديد، من دون أن يعلم اللبنانيون السبب الأساسي الذي يقف خلف شحّ الخبز، فكل مسؤول معني بالقضية يرمي بالمسؤولية على الطرف الآخر، وغالبيتهم يتفقون في الفترة الأخيرة بتوجيه إصبع الاتهام إلى اللاجئين السوريين بأنهم السبب الرئيسي للأزمة وأكثر المستفيدين من الأموال المخصصة لدعم الطحين.
إشكالات متنقلة
تطمينات وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال، أمين سلام، بوجود كميات كافية من الطحين والقمح، لا تترجم على أرض الواقع، بل على العكس يومياً يزداد الوضع سوءاً ويغلق المزيد من الأفران.
الإشكالات المتكررة جعلت عدداً من المواطنين يفضلون تناول طعامهم من دون خبز كي لا يعرضوا أنفسهم لخطر الاصابة بضربة عصى أو حجر أو حتى بطلقة نارية، لاسيما وأن مقاطع الفيديو المتداولة تثير الرعب، منها الإشكال الذي وقع يوم الأحد في بلدة مكسة في البقاع، بين عرب قب إلياس واللاجئين السوريين، وذلك بحسب ما أكده رئيس البلدية عاطف الميس.
من أجل الخبز سقط عدد من الجرحى، كما قال الميس لموقع “الحرة”، وتم تحطيم الواجهات الزجاجية وقسم من محتويات الفرن، ولم يهدأ الأمر إلا بعد أن اتصل بالجيش، ليوزع بعدها صاحب الفرن الخبز المتبقي لديه قبل أن يغلق أبوابه لحين انتهاء الأزمة، ويشدد الميس “ما يحصل سببه عدم توفر الخبز بكميات كبيرة، وعدم تسليمه للدكاكين، إضافة إلى إغلاق عدد من الأفران أبوابها، فكل ذلك يؤدي إلى ضغط على الأفران التي لا تزال تعمل”.
كما تم تداول مقطع فيديو لشبان اقتحموا أفران موسى، في بلدة تعلبايا في البقاع، وقاموا برمي منتجاته أرضاً.
وفي اتصال أجراه موقع “الحرة” بالفرن تم التأكيد أن الفيديو التقط قبل يومين، وسبب المشكلة “غضب الشبان من عدم توفر الخبز العربي لدينا، في حين يتوفر الكعك والحلويات، ورغم شرحنا لهم أن الطحين الذي يدخل في صناعة الخبز العربي مدعوم ويختلف عن الطحين الإكسترا الذي نشتريه بالدولار الأميركي، إلا أنهم أصروا على اقتحام الفرن وأحدثوا الخسائر كما ظهر في الفيديو”.
كما حصل إشكال، قبل فترة، أمام أفران “الريداني” في البداوي شمالي لبنان، وتخلله إطلاق نار، مما أدى الى سقوط ثلاثة جرحى، ودفعت الأجواء المتوترة بصاحب الفرن إلى إغلاق أبوابه.
وشهدت منطقة المنية اشكالاً أمام أحد الأفران، حيث تشاجر عدد من الشبان المنتظرين في الطوابير، ما دفع بصاحب الفرن إلى إغلاقه لوقت قصير ليعاود بعدها البيع، كما لم يسلم الفرن العائد لنقيب أصحاب صناعة الخبز في لبنان أنطوان سيف من المشكلات، إذ شهد يوم الاثنين الماضي تضارباً بين الزبائن داخل صالة المبيع في كسروان.
أبدى سيف في حديث لموقع “الحرة”، تخوفه من أن تتطور الاشتباكات، لاسيما كما قال “يوم الأحد الماضي حصل خلاف أمام أحد الأفران في بيروت، حيث هدد بعض الشبان بإطلاق النار”، ويشدد “يعيش المواطنون في ضغط نتيجة كل الأزمات التي يمرون بها، وعلى المعنيين حلّ الوضع بأسرع وقت ممكن، وإلى حينه يجب تأمين الحماية للأفران”.
تكمن المشكلة الأساسية، كما يقول سيف، باغلاق عدد من المطاحن نتيجة عدم توفر القمح، ويشرح “وصلت البواخر، لكن مصرف لبنان لم يحوّل الأموال إلى الخارج لدفع ثمن القمح، كما أن إضراب موظفي القطاع العام، ومن بينهم موظفو وزارة الزراعة، يحول دون إجراء الفحوصات المخبرية اللازمة على القمح للإفراج عن البواخر”.
لكن وزير الزراعة في حكومة تصريف الأعمال عباس الحاج حسن، نفى أن يكون هناك تأخير في الفحوص التي تجري على القمح مؤكداً أنه “منذ عشرة أيام نحرص على ألا تتعدى العملية المخبرية مدة أربعة أيام كحد أقصى، حيث نعمل بطاقة أكثر من سريعة، لكن لا يمكننا اختصار المدة أكثر من ذلك، إذ في النهاية هناك بروتوكول عالمي يجب الالتزام به” مضيفاً “على رغم إضراب موظفي الإدارة العامة، فإن موظفي وزارة الزراعة لا يزالون يقومون بمهامهم ومستمرون في ذلك”.
ويشدد الحاج حسن في حديثه لموقع “لحرة” “نحاول قدر المستطاع الإفراج عن بواخر القمح، والأسبوع المقبل يفترض الإفراج عن ثلاث منها”، معبراً عن أمله بأن “تنتهي هذه الأزمة من خلال ديمومة واستمرار هذا القطاع، فزراعة القمح تخفف الكثير من الأعباء، مع ضرورة أن يكون هناك مراقبة ومساءلة ومحاسبة على الجميع”.
اتهامات تعزز العنف
وأكد وزير الاقتصاد اليوم الثلاثاء، أنه “في حال اتخذ قرار رفع الدعم، فإن سعر ربطة الخبز سيتراوح بين 30 ألف و35 ألف ليرة لبنانية”، وقبل أيام كشف أن “الاتفاق مع البنك الدولي يقضي برفع الدعم عن الطحين، وأن هذه الخطوة ستتخذ بعد تسعة أشهر، حيث ستتمكن الأسر الفقيرة من الحصول على الخبز من خلال بطاقات تمويلية”.
وفيما يتعلق بالأزمة الحالية، أشار سلام إلى أن 50 ألف طن من القمح ستدخل إلى لبنان خلال عشرة أيام، تكفي لشهر ونصف الشهر وستخضع لفحوص وزارة الزراعة، “ويجب الإسراع في الإنتاج حتى لا تحدث أزمة في البلد”، مشيراً إلى أنه “تم تشكيل لجنة بادارة وزارة الاقتصاد لتنظيم وصول القمح إلى المرفأ وبعدها إلى المطاحن، وبمساعدة جميع الأجهزة لمتابعة وصول القمح إلى الأفران”.
وكان سلام اعتبر الشهر الماضي أن ما يجري “حرب جدية في موضوع الأمن الغذائي عالمياً، وحرب وسلب ونهب في موضوع الأمن الغذائي محلياً، وهنا أتحدث عن تجار الأزمات الموجودين دائماً لاستغلال الظروف الصعبة، فكل أسبوع تواجهنا أزمة في موضوع القمح والطحين والخبز، وهذه تعتبر أزمات نصب واحتيال واستغلال للمال العام”.
وبعد أن كان سلام يتهم تجار باحتكار مادة الطحين، شنّ ومسؤولون لبنانيون حملة على اللاجئين السوريين، متهمين إياهم بالوقوف خلف الأزمة، حيث كرر وزير الاقتصاد أن “400 ألف ربطة خبز تذهب يومياً إلى النازحين وبأنهم المستفيدون من الدعم”، وهو ما شدد عليه وزير الشؤون الاجتماعية في حكومة تصريف الأعمال هكتور حجار إذ قال “يدعم لبنان النازحين السوريين بتسعة ملايين دولار شهرياً ثمن الخبز فضلاً عن خدمة الكهرباء والمياه التي كانوا يحصلون عليها مجاناً”.
وشارك وزير المهجرين في حكومة تصريف الأعمال عصام شرف الدين في حملة “السوري يأكل خبز اللبناني”، حيث لفت في المقابلات التي أجراها في الأسابيع الأخيرة تحت عنوان “خطة إعادة النازحين” إلى أن “مليون ونصف المليون نازح سوري يحتاجون يومياً إلى 500 ألف ربطة خبز”.
لا شك أن تحميل اللاجئ السوري ولو جزءاً من المسؤولية عن أزمة الخبز يلعب دوراً في مشاهد العنف التي تحصل أمام الأفران، وإن كانت الاشكالات تحصل أحياناً بين لبنانيين وسوريين، وأحياناً أخرى بين اللبنانيين أنفسهم، وكذلك بين سوريين، وبين الزبائن وأصحاب الأفران.
وعن صرخة نقابات المخابز والأفران في لبنان علّق نقيب أصحاب الأفران في طرابلس والشمال طارق المير، في حديث لموقع “الحرة” بالقول “من الطبيعي أن نطلب حماية أمنية لتنظيم الطوابير، وقد تواصلنا مع القوى الأمنية مرات عدة، حيث أبدت تجاوباً وسيّرت دوريات، ونحن نعلم أن العسكري ليس مضطراً للوقوف طوال اليوم على باب الفرن”.
من جانبها أكدت القوى الأمنية لموقع “الحرة” أنها تقوم بدورها بحفظ واستبداد الأمن، مشددة على “ضرورة أن تنظّم الأفران الطوابير وترفض أي وساطة للحصول على الخبز، وذلك للحيلولة دون وقوع أي إشكال”.
مناشدات لإنهاء المعاناة
أزمة الرغيف قديمة متجددة في لبنان فاقمها تضرر الإهراءات التي تتسع لـ120 ألف طن من القمح نتيجة انفجار مرفأ بيروت، وزاد الطين بلّة الحرب الروسية على أوكرانيا، التي تزود لبنان بمعظم وارداته من القمح.
ردّ المير سبب الأزمة الحالية إلى عدم توّفر الطحين، “نتيجة فتح حاكم مصرف لبنان اعتمادات لبواخر القمح، ما أدى إلى إغلاق تسعة مطاحن من أصل 12 مطحنة” مشدداً على ضرورة تأمين لقمة الفقير “لكن للأسف الوضع يزداد سوءاً”، وكانت الأزمة دفعت رئيس نقابة المخابز العربية في بيروت وجبل لبنان، علي إبراهيم إلى الاستقالة من منصبه، بعد رفضه، كما يقول، أن يكون شاهد زور على ما يحصل في هذا القطاع.
وقال في بيان: “بعد استفحال الأزمات المتكررة في قطاع صناعة الرغيف، وتحميل أصحاب المخابز والأفران مسؤولية هذه الأزمات التي أدت إلى إذلال الناس أمام الأفران التي تحتاج إلى الطحين لتأمين رغيف الخبز، لا يسعني أن أكون شاهد زور على ما يحصل في هذا القطاع، في وقت لم يعد بمقدوري عمل أي شيء لحماية أصحاب الافران الشرفاء الذين يتحملون وزر هذه الأزمات، في ظل غياب أي حل منطقي يحفظ حقوق الجميع”.
ولوضع حد للمأساة، شددت نقابات المخابز والأفران في لبنان على ضرورة تنظيم هذا القطاع وتوفير القمح لجميع المطاحن كي يتم تأمين الطحين إلى كل الأفران بصورة طبيعية،”لأن توقف مطحنة واحدة عن العمل قد يؤثر على كميات الطحين”، وأملت أن تكون هناك عدالة في توزيع الطحين على الأفران بما يؤمن عملها لإنهاء طوابير الذل من أمامها “لأسباب ليست الأفران مسؤولة عنها بل بسبب نقص كميات الطحين المسلّمة إليها في جميع المحافظات اللبنانية خلال شهري يونيو الماضي ويوليو الحالي”.
ولفتت إلى حاجة الأفران لزيادة نسبة إنتاجها “لتتوافق مع حجم الطلب المتزايد نتيجة وجود أكثر من 700 ألف سائح من جهة، ولزيادة الطلب على الخبز العربي لارتفاع سعر الخبز الإفرنجي ومشتقاته بعد رفع الدعم عن الطحين المخصص لصناعته من جهة ثانية،” مشددة على أن “أصحاب الأفران يعانون من صعوبة العمل في ظل الظروف الراهنة وتهافت المواطنين على أبواب الأفران، وقد آن الأوان لانتهاء هذه المعاناة، سواء كانت للمواطن أو لصاحب الفرن”.