بيروت ـ «القدس العربي»: السؤال مشروع عن مرحلة خريف العمر، فماذا بعد عمر الخمسين والتقاعد من العمل؟ تتناقص المسؤوليات وتنتشر العائلة كل حيث عمله وحياته. وتُفرّق ظروف الحياة بين الأصدقاء. يختلف الأمس عن اليوم. هل الحل بكتف اليدين انتظاراً للنهاية؟ بالتأكيد ليس الحل المرتجى من الأكثرية الساحقة من كبار السن. بل البحث عن سبل تبث الإيجابية في حياتهم، ما ينعكس على صحتهم النفسية وبالتالي الجسدية.
من منطلق ترابط الصحة النفسية بالصحة الجسدية ولدت فكرة جامعة الكبار في الجامعة الأميركية في بيروت سنة 2010 فشكّلت حيزاً للتلاقي والتفاعل الإيجابي بين كبار السن. صارت مكاناً منشوداً ولحظة منتظرة، فزملاء الجامعة باتوا عائلة جديدة. وهذه الجامعة شكلت حلاً مثالياً لمن صارت الوحدة رفيقهم بعد تفرق الأبناء في شتى أصقاع الأرض. بدأت الجامعة بـ56 منتسباً وصارت الآن بحدود الـ200.
عن جامعة الكبار هذا التحقيق:
تحدثت سوسن مكتبي عضو اللجنتين التنسيقية والإدارية في جامعة الكبار عن ولادتها وأهدافها:
أطلقت الفكرة مؤسِسة مبادرة حسن الجوار في الجامعة الأميركية الدكتورة سينتيا منتي، والعميدة الحالية لكلية الصحة العامة الدكتورة عبلة محيو السباعي، والهدف صحة الكبار الجسدية والنفسية، وانخراطهم في العمل الثقافي والاجتماعي، والحفاظ على العلاقات الاجتماعية فيما بينهم. والكبار هم كل من تجاوز الـ50 سنة. ندرك مدى فعالية الأشخاص في هذا العمر وقدرتهم على العطاء، من خلال خبراتهم وتجاربهم في الحياة. واستند تأسيس جامعة الكبار إلى دراسة ميدانية حول حاجاتهم في المجتمع اللبناني، فالاهتمام بهم حديث العهد محلياً.
وفي تنظيم جامعة الكبار تقول مكتبي: تؤكد جامعة الكبار أن لا حدود زمنية للتعلُّم. وهي تعتمد فصلين دراسيين يتوزعان على الربيع والخريف، ويمتد كل منهما لأربعة أشهر. يتضمن كل فصل بين 22 و25 محاضرة، وبين 9 و12 مقرراً. في حين تُعطى المحاضرة لمرة واحدة وعلى مدى ساعة، وبحضور قد يفوق الـ100. يقتصر حضور المقرر على 15 أو 20 شخصاً بحسب رغبة الأستاذ، ويتراوح زمنه بين 3 و6 جلسات. المحاضرون في جامعة الكبار أصحاب خبرات واختصاص، وأكثرهم أساتذة في الجامعة الأميركية، ويتعاونون معنا انطلاقاً من مبدأ تبادل العطاء.
وماذا عن بدل الانتساب؟ تقول مكتبي: رمزياً بحدود 400 ألف ليرة للفصل، وسيتبدل بالتأكيد مع الواقع الاقتصادي الجديد. مع العلم أن المحاضرين يتعاونون مجّاناً سواء كانوا أساتذة جامعيين، أو مختصين في مجالاتهم أو من أعضاء جامعة الكبار. ومع الحجر المنزلي انتقل التعلُم إلى الأونلاين. قرار توجسنا منه بداية، لكن تجاوب الكبار مع هذه المرحلة التي لها جانب تكنولوجي أدهشنا. فقد استوجب الأمر قليلا من التعاون والمساعدة، وانطلق الجميع في المرحلة الجديدة. وكانت المحاضرة تجمع بحدود 120 شخصاً. في المرحلة المقبلة سنعتمد الدوام مناصفة بين الحضوري وأونلاين. ولا نخفي أن الأونلاين جذب عدداً كبيراً من المحاضرين والأعضاء إلى جامعة الكبار من خارج لبنان، مما وسّع الآفاق.
أشرفت مكتبي على معرض «الأصوات من خلال الفن» تقول عن حيثيات تنظيمه: كانت البداية من محاضرة عن الفن التشكيلي. وخلال فترة الحجر المنزلي شكّل المنتسبون لجامعة الكبار مجموعات صغيرة وراحوا يرسمون ويتواصلون مع أستاذهم. منهم من اكتشف موهبته بالرسم، ومنهم من عاد يرسم بعد توقف طويل. وإذ بهم ينجزون لوحات جميلة. شاركوا في معرض اقيم في قطر في كانون الأول/ديسمبر 2021. ثمّ ولدت فكرة المعرض ليكون بمتناول الجميع، وحفّزته محاضرة لطلاب الطب في الجامعة الأميركية قبل الحجر، والذين أسسوا «غولد كلينيك» بهدف العناية بكبار السن من ذوي الحاجة الاقتصادية المتعثرة. عناية تتم في مستوصف الجامعة، وتتضمن عمليات جراحية وبدون مقابل مادي. عندما لمسنا عطاء الجيل الجديد والمتمثل بطلاب الطب، وكذلك العطاء الفني من كبار السن تكاملت فكرة المعرض. وساعدتنا في تنظيمه جمعية «هيلب إيج انترناشونال» البريطانية التي تُعنى بشؤون الكبار. بدأ التحضير للمعرض مع بداية 2022 وبات حقيقة في 17 حزيران/يونيو الماضي. شارك فيه عدد من طلاب الجامعة الأميركية وجامعة الكبار. ومن الأفكار التي طلبنا تجسيدها في ثلاث لوحات كبيرة التعايش والتمازج والتضامن بين جيلين كبار وشباب، ونفّذها شاب وآخر من جامعة الكبار. ريع المعرض كان مشجعاً وذهب لدعم «غولد كلينيك». تميزت التجربة بالنجاح على مختلف المستويات، وأكدت أن الصحة النفسية لكبار السن بخير. وأكد الشباب أن التنمُّر ضد التعمُّر، ليس صحيحاً وأن تهميش كبار السن ليس منطقاً سليماً. والخلق والإبداع لا عمر لهما.
الأثر النفسي والثقافي
والصحي الإيجابي
وأوضحت ضحى سليم الأستاذة المحاضرة في جامعة الكبار وعضو لجنة المناهج، أثر جامعة الكبار في حياة أعضائها نفسياً وثقافياً وصحياً بالقول: لا شك بأنه إيجابي على المستويات الثلاثة. الوضع الصحي ينعكس على مزاج الإنسان وبخاصة كبار السن. يتقاعد أحدنا من العمل، ليجد نفسه وحيداً في لبنان من دون أبناء وأحفاد وهم الحرمان الأكبر، فأكثر العائلات هاجر أبناؤها. لذلك شكلّت جامعة الكبار في صرح معروف ومهم هو الجامعة الأميركية في بيروت، لمتابعة مروحة واسعة من المحاضرات والمواضيع تبديلاً كلياً في الاهتمامات. أحدثت جامعة الكبار تغييراً جذرياً في حياة كبار السن، فهم حكماً سيغادرون المنزل لتمضية وقت جميل في الجامعة وبخاصة السير مشياً للوصول إلى الهدف. فداخل الجامعة الأميركية بحد ذاته يشكل رياضة نفسية في مكان أخضر. وللمنتسبين إلى جامعة الكبار إمكانية الدخول إلى الكافيتريا لتناول القهوة معاً. هذه العلاقات الاجتماعية ساهمت بتشكيل مجموعات صغيرة فيما بينهم منها نادي للكتاب. هم يقرأون، ثمّ يجتمعون لمناقشة الكتاب. إذاً جامعة الكبار خلقت حياة اجتماعية جديدة بين المنتسبين، وساعدتهم نسبياً بتجنّب المشاكل الحياتية المتفاقمة في لبنان. حكماً التأثير الإيجابي كان كبيراً نفسياً وثقافياً وبالتأكيد صحياً.
ونتعرّف من سليم عن المشترك بين المنتسبين إلى جامعة الكبار لجهة العمر ومستوى التحصيل العلمي فتقول: يبدأ عمر المنتسبين لجامعة الكبار من الخمسين وما فوق. أحد لم يسأل عن مستوى التحصيل العلمي، ولا عن المهنة قبل التقاعد. لهذا تضمّ الجامعة منتسبين في غاية الحيوية وهم في عقد الخمسينيات، وكذلك من هم بعمر 84 وهم أيضاً يتمتعون بالنشاط والحيوية. والفرق بين أعمار المنتسبين يضفي غنى وحيوية بينهم. وهم معاً ينظمون مشاريع مشتركة خارج الجامعة تترك تأثيرها الإيجابي عليهم. يختلف من كانت لديهم خبرة مهنية عن غيرهم لجهة الشخصية، لكنهم يستفيدون أحدهم من الآخر. ومن لم يعمل وبخاصة النساء اللواتي كنّ فقط ربات منزل، أكسبتهم الحياة خبرة كبيرة، أمر افتقده من كانت لهم ساعات عمل مُكثّفة. لهذا شكّل التواصل بينهم فائدة كبيرة وترك تأثيراً إيجابياً على الجميع.
وحددت سليم المعايير العلمية المعتمدة لوضع برنامج جامعة الكبار: كعضو في لجنة المناهج بتّ أرى أن الخبرة العلمية للمشرفين على وضع البرنامج، تشكل المظلّة التي من خلالها يتم اقتراح مواضيع المحاضرات أو المقررات. الصحة موضوع ثابت، كذلك التاريخ والاقتصاد، والموضوعات المرتبطة بأحداث الساعة، إلى أخرى فنية وموسيقية، ورسم وطبخ. نحن أمام مروحة محاضرات واسعة ومدروسة من قبل خبراء في تحديد حاجات الكبار. إذاً للبرنامج معايير علمية واضحة من قبل المشرفين عليه كخبراء في تعليم الكبار. وهم يستندون إلى ردود أفعال الكبار على الموضوعات التي تقدّم لهم.
وتحدثت سليم عن الواقع الذي فرضته جائحة كورونا والتعديل الذي طرأ على البرنامج والتعليم أونلاين وقالت: أظهر الكبار مرونة وثقة بالنفس وقدرة على اكتساب مهارات التعامل مع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، بشكل غير منتظر. خاصة وأن بعضهم كان غريباً كلياً عن هذا العالم. وبعضهم استعان بالأحفاد للدخول إلى مواقع التواصل الاجتماعي الحديثة. إنه تعديل مهم فرضه الواقع.
جامعة الكبار الحل المثالي
تيريز جحا عضو مشارك في وضع البرامج ومنتسبة إلى جامعة الكبار منذ بداياتها، أكّدت أن الجامعة «حققت أهدافها، وسلّطت الضوء على قضايا خاصة بهم كانت مهملة، ومن ضمنها دمج كبار السن في المجتمع كواحد من الأهداف السامية». وتضيف: غيّرت جامعة الكبار حياتي، وأضافت لي عائلة جديدة، وأمور كثيرة أعجز من وصفها. فكبار السن في لبنان ليس أمامهم مروحة اختيارات بعد سن التقاعد، حيث تتحول حياتهم إلى همّ. جامعة الكبار بدّلت المعادلة، وتحوّلت الحياة لفرح ومشاركة على مستويات عدّة. وإلى المحاضرات والمقررات يتضمّن برنامج المنتسبين إلى الجامعة نشاطات اجتماعية. ميزة المنتسبين إلى جامعة الكبار إنتماءهم لعدّة جنسيات من المقيمين في لبنان، يمضون معاً أياماً رائعة ضمن إطار جامعي مدروس. أنا زوجة وأم لثلاث فتيات شقت كل منهن طريقها في الحياة بعيداً عني، كانت جامعة الكبار حلاً مثالياً لي.
ونسأل جحا عن صف الطبخ الذي قدّمته ومن يهتم بالطبخ مجدداً؟ فتجيب: كافة المنتسبين لجامعة الكبار يهتمون بكل جديد يُقدّم لهم. أتى صف الطبخ قبل الإقفال بسبب الجائحة وكانت مناسبة عيدي الميلاد ورأس السنة. قدمت طريقة طهو الحبش بالمكسرات. وكان الاهتمام كبيراً والمشاركة رائعة. وقدّمت صفاً أونلاين عن صناعة الكنافة المنزلية وبكلفة اقتصادية، وغير ذلك من المأكولات. لفتني أن الأكبر سناً كانوا أكثر تجاوباً.
باتت لي عائلة كبيرة من الأصدقاء
انتسب زهير عراوي إلى جامعة الكبار في مرحلة الأونلاين لكنه يؤكد رغبته بالدوام الحضوري. يقول: تابعت المحاضرات والنشاطات أونلاين وعبر تطبيق زووم. متوسط المشاركة بلغ 90 لكل محاضرة. ضارّة الجائحة انعكست نفعاً لي اكتسبت مزيداً من الخبرات، وتعرفت إلى أصدقاء جُدد. وبتنا عائلة كبيرة من المثقفين، تجمعنا شبكات التواصل المختلفة. في ظل الجائحة تركت جامعة الكبار أثراً إيجابياً كبيراً على حياتي وتعويضاً في التواصل كنت احتاجه. بالتأكيد يبقى التواصل المباشر أفضل من الأثير، إنما للضرورة أحكامها.
لماذا أنت في جامعة الكبار؟ يقول عراوي: تعتمد سعادة الحياة لدى التقدم في العمر على جودة الأفكار، والمحيط، والرعاية وتجاوب الأشخاص الذين نكبر معهم. إنما الإجابة على السؤال تتمثل في رؤية الجامعة وبرنامجها التأسيسي. فلجامعة الكبار برنامج رائد لمن هم فوق عمر الـ50 يهدف لخلق وجه جديد وإيجابي للشيخوخة في لبنان والمنطقة العربية. ومن خلاله يتفاعل البالغون ويتشاركون فكرياً واجتماعياً، ويتعلمون أشياء جديدة، ويساهمون بنشاط في مجتمعاتهم. وحصراً يتعزز التواصل بين الجسم الطلابي العادي في الجامعة الأميركية في بيروت وبين كبار السِّن عملاً بمبدأ التواصل بين الأجيال، إلى جانب التوسع المعرفي وتحديثه لدى المنتسبين والمشاركين.
ويخلص عراوي للقول: جُلَّ ما يرغبه الكبار ويصبون إليه، هو توسيع حلقة الأصدقاء من المثقفين، والنخبة من أصحاب الخبرات والوعي الاجتماعي والمستوى المعرفي، وهذا أمر صحي ومطلوب في هذه المرحلة من العمر. من هنا أتاحت لي جامعة الكبار، فرصة تبادل الخبرات، والتواصل مع الزملاء والأجيال الفتية أيضاً. والحصول على كمّ معرفي لا يستهان به، بالوقوف على أعمال وأبحاث الآخرين من أعضاء منتسبين لجامعة الكبار، وضيوف الجامعة المشاركين على مساحة الوطن.
وعلى الصعيد الشخصي تحدّث عراوي عن الدور الإيجابي لجامعة الكبار «في مشاركة بعضهم بقراءة كتاباتي، فأنا كاتب للقصة القصيرة. ومنحتني الجامعة فرصة المشاركة في المعرض الفني، والذي أُقيم مؤخراً في حَرَمِها، ولقي نجاحاً منقطع النظير. وكان له صداه الإيجابي على الصعيد النفسي. فجُلَّ ما يرغبه الكبار ويصبون إليه، هو توسيع حلقة الأصدقاء من المثقفين، والنخبة من أصحاب الخبرات والوعي الاجتماعي والمستوى المعرفي، وهذا أمر صحي ومطلوب في هذه المرحلة من العمر».