في القرن الرابع قبل الميلاد، قدم أرسطو أول تصوّر للكون؛ أرض ثابتة في مركز لا يبعد كثيرًا عن حفنة هائلة من النجوم والكواكب تتناثر حوله في مسارات دائرية. ظلت هذه الفكرة عن الكون موضع تبجيل حوالي 2000 سنة، إلى أن استبدل الفلكي كوبرنيكوس الأرض بالشمس كمركز للكون، وعزا دوران النجوم إلى حركة الأرض، فهي الدائرة بلا سبب حول نفسها، بينما النجوم تقف حيالها لا تحرك ساكنًا. لكن قوانين كبلر الثلاثة هي التي أطاحت تمامًا بكونِ أرسطو المحدود والمتناهي. ويعود الفضل إلى غاليليو في تحرير الكون من ضيق خيال العلماء والفلاسفة، وذلك باختراعه التلسكوب لرصد الكون بالرؤية المباشرة، وتمكنه بالفعل من رصد الشمس وأقمار المشترى، لتبدأ من عنده الثورة العلمية، وتعمل المراصد الفضائية على فتح “سماء جديدة” لعلماء الفلك، وإمدادهم بمعلومات لم يتمكنوا من الحصول عليها من المراصد الأرضية، لعل أهمها مرصد “هابل”، الذي غير طريقة نظرتنا إلى العالم، والتقط على مدار ثلاثة عقود أعمق صور للكون، مخترقًا عشرة آلاف مجرة، فضلًا عن أزمنة تسبقنا بملايين السنين.
كان في وسع “هابل” الاستمرار في أداء عمله لسنوات أخرى، لولا أن ظهرت الحاجة إلى تلسكوب يفوق قدراته، ويحل محله تلسكوب “سبيترز” الفضائي الذي أنهى خدمة “هابل” عام 2020.
في عام 1996، بدأت كل من وكالات الفضاء الأميركية والأوروبية والكندية بقيادة “ناسا”، العمل على تلك الفكرة بميزانية قدرها 500 مليون دولار أميركي، وموعد إطلاق مبدئي هو 2007، لكن المشروع تعرَّض لتأجيلات عديدة، حتى تجاوزت التكاليف في النهاية 10 مليارات دولار. كما خضع لعملية إعادة تصميم كبيرة في 2005، ولم يتم الانتهاء منه إلا في أواخر 2016، ليخوض المرحلة الأكثر حساسية؛ مرحلة الاختبارات المكثَّفة، وحبس الأنفاس، والقلق الذي لا ينقضي.
في آذار/ مارس 2018، أجَّلت “ناسا” الإطلاق بعد تمزُّق الدرع الشمسي بمساحته الشاسعة التي تعادل حجم ملعب تنس، ثم مرة أخرى بسبب جائحة كورونا، إلى أن حانت لحظة الصفر، وتم إطلاقه أخيرًا في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2021 على مركبة أريان5 من غويانا الفرنسية، يوم عيد الميلاد، ليكون إيذانًا بميلاد جديد للكون بأسره.
“كان صعبًا جدًا ولكننا فعلناه”!
صمم تلسكوب “جيمس ويب” (نسبة إلى اسم جيمس إدوين ويب؛ مدير “ناسا” في الفترة (1961 ـ 1968)، الذي لعب دورًا أساسيًا في برنامج أبولو)، لرؤية جزء من الكون تعذر التقاطه من مرآة “هابل” التي يبلغ قطرها 2.4 متر، ما استلزم تكوين مرآة قطرها 6.5 متر مؤلفة من 18 قطعة سداسية من المرايا المصنوعة من البيريليوم المطلي بالذهب. وعلى عكس “هابل”، الذي يرصد الأطياف القريبة من الأشعة البنفسجية والمرئية، يرصد “جيمس ويب” في نطاق تردد أقل، من الضوء المرئي ذي الطول الموجي الطويل حتى منتصف الأشعة تحت الحمراء (من 0.6 إلى 28.3 ميكرومتر)، وهو ما يسمح برصد الأجرام ذات الانزياح الأحمر العالي، والتي ستكون سحيقة جدًا، وبعيدة جدًا عنا، والتي لم يكن في وسع “هابل”، برغم إمكاناته الهائلة، أن يرصدها كما هو المطلوب من “ويب”، خليفته الأكثر تقدمًا.
أكثر من ربع قرن من الانتظار، فضلًا عن ستة أشهر منذ لحظة الإطلاق، والعلماء يقضمون أظافرهم من دون قدرة على ضبط ضربات قلوبهم، سيما لحظة انفصال “ويب” عن الصاروخ بعد حوالي 30 دقيقة من إقلاعه، إلى لحظة وصوله إلى نقطة الرصد التي تم اختيارها له، لاغرانج L2، أفضل نقطة تسمح بإبقائه باردًا جدًا ليتمكن من الرصد من دون تشويش خارجي، والمكان الأمثل لرؤية الأجرام الثلاثة على نفس الجانب منه طيلة الوقت، وهو ما استغرق منهم ومنه رحلة سير في الفضاء لمدة 30 يومًا ليمر بما لا يقل عن 344 خطوة بالترتيب حتى يستكمل إعداداته، بينما العلماء والباحثون يتابعونه في كل خطوة نحو موضعه على بعد مليون ونصف مليون كيلومتر خلف الأرض والشمس.
يبدو أن الانتظار كان يستحق كل هذا العناء. وعلى عكس الصعاب، وصل “ويب” إلى وجهته سالمًا، وعمل على تكوين نفسه بنفسه عبر خطوات دقيقة ومحسوبة، وفي صباح 12 يوليو/ تموز، أصدرت وكالة “ناسا” في مؤتمر صحافي الصور الأولى التي التقطتها التلسكوب الجديد في غضون ساعات من عمله. وقام الرئيس الأميركي، جو بايدن، من البيت الأبيض بعرضها على العالم باعتبارها “أدق صور تم التقاطها على الإطلاق لكوننا الشاسع والمتمدد باستمرار”. وصفها بايدن بأنها “لحظة تاريخية”، ليس فقط للعلم والتكنولوجيا، ولكن “لأميركا والبشرية جمعاء”.
في اليوم التالي، نشرت وكالة الفضاء الأميركية مزيدًا من الصور من مركز غودارد لرحلات الفضاء في ماريلاند وسط الهتافات الهائلة وصيحات الاستحسان المنتصرة، وسعادة وارتياح العلماء. وقال الدكتور جون ماثر، كبير علماء المشروع في “ناسا”، للغارديان البريطانية: “كان الأمر صعبًا للغاية، واستغرق منا وقتًا طويلًا. من المستحيل التعبير عن مدى صعوبة الأمر… لكننا فعلناه”.
“لم تعد مشكلة العلماء الآن التفكير في الوسيلة بقدر ما أصبحت الغاية، مهمتنا الآن، يقول ماثر، بثقة وسعادة: هي اختيار النجوم التي نريد فحصها، وأي الكواكب سنلتقط صورًا لها، وليس ما إذا كان التلسكوب قادرًا على القيام بذلك أم لا. إنه أكثر من قادر على القيام بهذا النوع من العلوم، بدقة مذهلة”.
ولادة الكون من جديد
استنادًا إلى الصور التي تم التقاطها حتى الآن، يعتقد علماء الفلك أنه يمكنهم القيام بكل العلوم التي كانوا يأملون فيها باستخدام “ويب”، بعد أن أثبت قدرته على تسخير قوى الجاذبية وتضخيم المجرات البعيدة. إحدى الصور تُظهر منطقة من السماء بحجم حبة رمل ممسوكة على مسافة ذراع لشخص يقف على الأرض، إنها سماكس 0723، جارتنا القاطنة على بعد 4.6 مليار سنة ضوئية، وهي كوكبة هائلة من المجرات يصفها الفلكيون بأنها “عدسات جاذبة”، لأنها تجمّع الضوء المنبعث من الأجرام البعيدة وتضخّمه. وما نراه منها الآن ليس إلا الصورة التي كانت عليها قبل ما يقرب من 5 مليارات سنة ضوئية. يقول الدكتور بيل أوشز، مدير مشروع “ويب”: “ويب” في حالة ممتازة، ويلبي متطلباته العلمية، بل يفوقها. لقد سلطت صورة سماكس الضوء على المجرات كما كانت قبل أكثر من 13 مليار سنة.
خلف مجموعة سماكس 0723، أطل التلسكوب على سديم كارينا، وهو عبارة عن مشتل نجمي شاسع يبعد 7600 سنة ضوئية، وهو موطن لنجوم أكبر بكثير من الشمس. إنه حضانة نجمية تخطف الأنفاس، غنية بالتفاصيل، إلى درجة أن الباحثين تمكنوا من تمييز الفقاعات والتجاويف والنفاثات المنبعثة من النجوم حديثة الولادة، إلى جانب مئات النجوم الأخرى التي لم يسبق لهم رؤيتها من قبل. ويبدو كسحائب هائلة من الغاز والغبار تتشكّل فيها نجوم جديدة. كان سديم كارينا هدفًا لتلسكوب “هابل” بدوره، لكن العلماء عبر “ويب” توصلوا إلى نتائج مغايرة تمامًا، وقد أبهرهم ما يمكن وصفه بأنه حواجز من تلال كونية تفصل بين غبار قابع في النصف السفلي، وغاز في النصف العلوي.
أحد أهداف “ويب” رؤية النجوم وهي تتكون، وليس هناك ما هو أمثل من حاضنة النجوم كارينا، لكن العلماء كعادتهم لن يتوقفوا عند معرفة كيفية الولادة، بل سيطمعون أيضًا إلى معرفة كيف تموت.
ونظرًا لأن حساسية “ويب”، التي تزيد 100 مرة عن حساسية “هابل”، سيكون في إمكانه رؤية كيف تشكلت مجرات الكون الأولى، وهي الجائزة التي يراها العلماء التتويج الحقيقي لهذا الجهد الخلاق، رؤية اللحظة التي غمر فيها الكون لأول مرة في ضوء النجوم.
تقول الباحثة البريطانية جيليان رايت، مديرة مركز تكنولوجيا الفضاء في المملكة المتحدة، لـ”بي بي سي”: “هذه الصور مبشرّة جدًا، وذات جودة عالية. لقد تمكن التلسكوب من رصدها في غضون ساعات معدودة، وهذا معناه ببساطة أن هنالك مزيدًا من الاكتشافات في انتظارنا”.
أرض جديدة أم جيران جدد؟
لكن “ويب” يَعِدُ بأكثر من مجرد النظر إلى الوراء، حيث كان الكون ما زال يحبو في نعومة أظفاره. في إحدى الصور، حلل “ويب” ضوء النجوم في أثناء مروره عبر الغلاف الجوي لكوكب حار يشبه كوكب المشتري يسمى واسب 96b، على بعد حوالي 1150 سنة ضوئية. وهو ما كشف عن وجود بخار، على الرغم من أن الكوكب حار جدًا، بحيث لا يمكن أن يأوي الماء السائل. من هنا، فطن العلماء إلى استخدام التقنية نفسها لدراسة التركيبات الكيميائية للأغلفة الجوية حول عوالم بعيدة، وربما العثور على كواكب بعيدة تحمل جيرانا محتملين، أو ربما تحمل وعدًا بأرض جديدة.
!function (f, b, e, v, n, t, s) { if (f.fbq) return; n = f.fbq = function () { n.callMethod ?
n.callMethod.apply(n, arguments) : n.queue.push(arguments) };
if (!f._fbq) f._fbq = n; n.push = n; n.loaded = !0; n.version = '2.0';
n.queue = []; t = b.createElement(e); t.async = !0;
t.src = v; s = b.getElementsByTagName(e)[0];
s.parentNode.insertBefore(t, s) }(window, document, 'script',
'https://connect.facebook.net/en_US/fbevents.js');
fbq('init', '174733359829996');
fbq('track', 'PageView');