في الحادي والعشرين من يوليو (تموز) الجاري، أي الجمعة المقبل، سوف يخرج عبر شاشات السينما وحول العالم، هذا الفيلم الذي طال انتظاره، للمخرج البريطاني كريستوفر نولان، والذي يتناول واحدة من أهم السير الشخصية، لرجل غير حال العالم مرة وإلى الأبد، لا سيما بعد أن قاد فريق علمي، بحث عن الموت في دروب الحياة، ما دعاه في نهاية أيامه لأن يطلق على نفسه تعبير “أنا الموت”.
هل يجيء فيلم نولاند كمصادفة موضوعية أم قدرية في هذه الأوقات التي يخشى فيها العالم من حدوث صدام نووي؟
التساؤل ولا شك مرتبط ارتباطاً عميقاً بالحرب الدائرة في أوكرانيا، ويأخذ في الحسبان المخاوف من أن تقود المواجهات بين روسيا والغرب، إلى السيناريو الشمشوني، أي ذاك الذي يتم فيه استخدام الأسلحة النووية؟.
مهما يكن من أمر الجواب، فإن هناك حكماً رسالة ما من المخرج البريطاني الشهير، وهو كاتب ومنتج في نفس الوقت، ومن أنجح الأسماء في عالم السينما، لا سيما أنه يكاد يضاهي ستيفن سبيلبيرغ الأميركي صاحب رائعة “تيتانيك” في صناعة أفلام ضخمة تتناسب مع حجم الموضوعات الكلاسيكية التي يقدمها على الشاشة.
ينتظر عشاق السينما متابعة فيلم عالمي، وبمواصفات هائلة يشارك فيه ممثلون من الصف الأول مثل كيلي مورفي ومات ديمون وروبرت داوني جونيور.
عطفاً على ذلك، يبدو مما تسرب من أخبار، أن نولاند استخدم في فيلمه الجديد، ما يقرب الفكرة النووية المخيفة من أذهان وأعين البشر، وذلك عبر استخدامه مؤثرات صوتية، تحتوي على مشهد مماثل لانفجار قنبلة نووية، من نوعية تلك التي تم إلقاؤها على هيروشيما وناغازاكي، في نهاية الحرب العالمية الثانية.
هل فيلم نولاند مجرد سردية لروبرت أوبنهايمر، أم أنه رسالة لقادة العالم النووي، درءاً لوقوع مأساة جديدة، لا تقارن بها قنبلة “الولد الصغير” المستخدمة سابقاً، والتي أدت إلى كارثة لا تزال تتحدث بها الأجيال؟
ربما يكون البحث في نهايات وخلاصات أوبنهايمر، لا سيما اعترافاته في نهاية عمره، بأنه بات المكافئ الموضوعي للموت، هو الجزئية الأهم في هذه لقراءة.
أوبنهايمر… في نيويورك كانت البدايات
في 22 أبريل (نيسان) من عام 1904، ولد روبرت أوبنهايمر في مدينة نيويورك الأميركية الشهيرة، على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، لعائلة من المهاجرين الألمان الأثرياء، فقد حط والده أقدامه في أميركا عام 1888، مصطحباً مع زوجته إيلا فريدمان، والتي كانت تعمل في مجال الرسم، ولم يكن له من الإخوة والأخوات سوى صبي واحد يسمى “فرانك” أصغر منه بنحو ثماني سنوات، وقد أصبح بعد ذلك فيزيائياً بدوره.
بدا واضحاً أن ثراء الأسرة، قد كفل لروبرت دراسة متميزة على كافة المستويات الاجتماعية والثقافية والعلمية، ومن هنا جاء انضمامه إلى مدارس النخبة الأميركية، تلك التي ترفع شعار “أفعال قبل الأقوال”.
درس روبرت في بداياته الرياضيات والعلوم، لآداب اليونانية والفرنسية، والكثير من المواد الأخرى، غير أن إبداعاته سوف ترتسم في الأفق عما قريب، حين يقدر له الذهاب إلى جامعة هارفارد، تلك التي لا يقدر على نفقاتها سوى زبدة المجتمع الأميركي.
تبدو قصة أوبنهايمر مع علم الفيزياء الذي سيقوده لاحقاً للقنبلة النووية مثيرة، ذلك أنها لم تكن في سلم أولوياته بداية الأمر لكنها الأقدار التي ستقوده عما قريب لحلم يجعل منه “محطم العوالم”.
في هارفارد تخصص في الكيمياء وأكمل دراسته عن الهندسة المعمارية اليونانية والفن والأدب. في سنته الأولى بهارفارد قبل أوبنهايمر ببرنامج لدراسة الفيزياء كدراسة مستقلة. كطالب بكالوريوس لم يحضر أي فصل للفيزياء أثناء دراسته لكورس الديناميكا الحرارية التي كان يتعلمها من أستاذه بيري بريدجمان.
بعد تخرجه في هارفارد، لم يجد أوبنهايمر ضالته في علوم الفيزياء الحديثة في الولايات المتحدة، ومن هنا كان السفر إلى المملكة المتحدة، ليلتحق بجامعة كامبريدج، حيث سيظهر هناك نبوغاً فائقاً في الفيزياء العلمية والنظرية دفعة واحدة.
في سن الثانية والعشرين سوف يتحصل أوبنهايمر على درجة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة غوتنغن الألمانية، الأجدر والأشهر في عالم دراسات الفيزياء النووية، ليعود بعدها أستاذاً في الجامعات والمعاهد الأميركية الكبيرة مثل كاليفورنيا وبيركلي ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.
ارتبط روبرت عام 1940 بزميلة له، ذات توجهات يسارية شيوعية، كانت تدعى كاترين كيتي بيونينغ، وأنجب منها ابنهما الأول بيتر عام 1941، وكاترين الثانية بعده بثلاثة أعوام.
أوبنهايمر وأجواء الفزع النووي الألماني
في نهاية الثلاثينيات، بدا وكأن هناك حالة من الفزع العام تخيم على أجواء العالم، خوفاً من توصل الألمان لسلاح نووي كفيل بإنهاء الحرب لمصلحة دول المحور، ما يعني سيادة وريادة النازيين والفاشيين، عطفاً على حلفائهم من اليابانيين.
كان ألبرت أينشتاين أبو النسبية في مقدم هؤلاء الذين عبروا عن مخاوفهم العميقة، وقد أرسل عام 1939 رسالة إلى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، عن طريق مستشاره الاقتصادي ساكس الذي كان صديقاً حميماً لأينشتاين.
كانت هناك إشارات في الأفق حول سعي الألمان سراً للحصول على سلاح حارق خارق، لا يصد ولا يرد، بهدف الهيمنة على العالم، وقد كان للاستخبارات البريطانية والأميركية، الفضل الكبير في الوصول إلى تلك المعلومات.
ولعل ما جعل دوائر الحلفاء تنتقل من مرحلة الشك إلى حدود اليقين في هذا السياق، قيام ألمانيا بالاستيلاء على ألوف الأطنان من اليورانيوم عندما اجتاحت بلجيكا، كما أنها تفاوضت مع حكومة تشيكوسلوفاكيا لأخذ اليورانيوم والراديوم الموجودين بمناجمها.
عطفاً على ذلك أنه حين أجتاحت ألمانيا النرويج وضعت يدها على أول مصنع في العالم لإنتاج الماء الثقيل الذي يمكن باستخدامه بناء مفاعل ذري بسهولة فائقة.
إضافة إلى ذلك، فإنه حين بدأت ألمانيا في صناعة الصواريخ الشهيرة “في-2″، تصاعد قلق العسكريين من الحلفاء، لا سيما أن حجم تلك الصواريخ كانت من الصغر، بحيث لا تبدو كسلاح تقليدي فاعل، ومن ثم بلغ اليقين الأوروبي والأميركي مداه، تجاه فكرة تركيب رؤوس غير تقليدية، بل نووية، ما يجعلها أكثر فتكاً من كافة الصواريخ التي هدم بها هتلر مدن أوروبا.
هل كان أينشتاين هو الأب الحقيقي للقنبلة النووية وليس أوبنهايمر؟
المعروف أنه في عام 1905، أي حين كان روبرت أوبنهايمر يبلغ عاماً واحداً من عمره، طور أينشتاين نظرية النسبية الخاصة.
يذكر “جوزيف إم سيراكوسا”، أستاذ الأمن البشري والدبلوماسية الدولية في المعهد الملكي للتكنولوجيا في ملبورن، في كتابه “مقدمة صغيرة جداً… الأسلحة النووية”، أن إحدى تبعات نظرية أينشتاين، أنه بالإمكان تحويل المادة إلى طاقة والعكس بالعكس، وتنص هذه المعادلة على أنه بالإمكان تحويل الكتلة إلى مقدار هائل من الطاقة، وذلك بعد ضربها في مربع سرعة الضوء. ولأن سرعة الضوء كبيرة للغاية (186 ألف ميل في الثانية) فإن مربع سرعة الضوء رقم كبير جداً، ومن ثم يمكن تحويل أي مقدار يسير من الكتلة إلى مقدار هائل من الطاقة.
كانت معادلة أينشتاين هي مفتاح قوة الأسلحة النووية والمفاعلات النووية.
من هنا استخدم تفاعل الانشطار النووي في أول قنبلة ذرية… غير أن السؤال: كيف تم التوصل إلى هذه القنبلة بداية المشهد؟
مشروع مانهاتن النووي… أوبنهايمر أو فيرمي؟
هل أوبنهايمر هو بالفعل أبو القنبلة النووية، وصاحب مشروع مانهاتن، أم أن هناك من سبقه في هذا المشروع الذي سيجعل الولايات المتحدة الأميركية تتسنم العالم نووياً في ذلك الوقت؟
المؤكد أن هناك من سبق أوبنهايمر، وهو عالم الفيزياء الأميركي الإيطالي الأصل، إنريكو فيرمي، الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1938، وهو أول من بنى نموذجاً للمفاعل النووي عام 1942.
تميز فيرمي في عالم الفيزياء النظرية والتجريبية، وقد كان الأكثر إنتاجاً في العالم، إذ قدم إسهامات جوهرية في تطوير الميكانيكا الإحصائية، ونظرية الكم، وفيزياء الجسيمات، وفي تطوير الطاقة النووية.
في العام نفسه، أي 1942، بدأت مسيرة أوبنهايمر مع البرنامج النووي الأميركي الوليد، فقد عرض وقتها الجنرال ليزلي غروفز على أوبنهايمر، أن يصبح المدير العلمي لمشروع مانهاتن بالغ السرية لتطوير القنبلة الذرية… ما هي قصة هذا البرنامج؟
في سياق السباق مع ألمانيا، تم تكليف أوبنهايمر باختيار موقع في منطقة لوس ألاموس، في ولاية نيومكسيكو الأميركية، وهناك شرع الجيش الأميركي في بناء مجمع مختبرات.
في الوقت عينه، تم تجميع ألمع العقول الفيزيائية من كل أنحاء الولايات المتحدة، وقد كان التكليف هو التوصل إلى قنبلة لم ير العالم لها مثيلاً من قبل.
في بداية المشروع الذي أطلق عليه “مانهاتن”، ظهرت موهبة أوبنهايمر القيادية والإدارية، وليس فقط الفيزيائية، فقد جمع الرجل من حوله المئات من المبدعين في علوم وأبحاث الفيزياء في أميركا، وما لبثوا أن أضحوا بالآلاف، وقد باتوا جميعهم تحت إمرته.
بدأ المشروع وكأنه رهان أميركي قومي، وقد كان ذلك كذلك بالفعل، وللمرء أن يتخيل وصول هتلر للقنبلة النووية قبل أميركا، وما كان سيحدث في ذلك الوقت من انقلاب في موازين الحرب.
تدفقت أموال دافعي الضرائب الأميركيين على أوبنهايمر وفريقه، ويوماً تلو الآخر بدا هذا العالم الفيزيائي، في امتلاك عقل وتطلعات الجنرال غروفز، المشرف الرئيس على برنامج مانهاتن.
مشروع مانهاتن وحيازة القنبلة الذرية
على رغم تأكيدات جروفز أن القنبلة الذرية سيكون من الممكن إنتاجها بحلول عام 1945، فإنه هو وكبار المدراء ذوي الصلة بالمشروع أدركوا تمام الإدراك مدى عظمة المهة التي تنتظرهم. وإنه لإنجاز صناعي عظيم أن تستطيع مؤسسة كبرى أن تنقل أبحاث المختبرات إلى مرحلة التصميم، ثم البناء، ثم العمل، ثم تسليم المنتج في فترة قوامها عامان ونصف العام (من 1943 إلى أغسطس/ آب 1945).
كان السؤال عن قدرة مشروع مانهاتن على إنتاج القنابل بحيث تؤثر في نتيجة الحرب العالمية الثانية سؤالاً مختلفاً بالمرة مع مطلع عام 1943.
وعلى رغم وضوح الأمر أمامنا الآن، ينبغي أن نتذكر أنه ما من أحد في ذلك الوقت كان يعلم أن الحرب ستنتهي في عام 1945، أو من الأطراف المتناحرة المتبقية – وهو الأمر المساوي في الأهمية – عندما تصبح القنبلة الذرية جاهزة للاستخدام، هذا إن أصبحت جاهزة للاستخدام من الأساس.
في تمام الخامسة والنصف صبيحة يوم الإثنين الموافق السادس عشر من يوليو (تموز) من عام 1945، شهدت مجموعة من المسؤولين والعلماء تحت قيادة جروفز وأوبنهايمر التفجير الأول للقنبلة الذرية، وذلك في “نرينيتي” وهو الاسم الكودي لموقع الاختبار التابع لمشروع مانهاتن في ألاموجوردو، بنيومكسيكو.
بدا المشهد مذهلاً، فقد شق سهم من الضوء الساطع ظلمة صحراء نيومكسيكو، مبخراً البرج ومحيلاً الأسفلت حول القاعدة إلى رمل أخضر منصهر.
أطلقت القنبلة قوة تفجيرية مقدارها نحو 19 ألف طن من مادة “تي أن تي”، وعلى نحو مباغت صارت سماء نيكومكسيو أشد سطوعاً من شموس عدة.
عانى بعض المراقبين من عمى موقت على رغم أنهم كانوا ينظرون إلى الضوء الساطع عبر زجاج معتم، وبعد الانفجار بثوان حلت موجة انفجارية هائلة، أطلقت الحرارة المتقدة عبر الصحراء، وأطاحت أرضاً ببعض المراقبين على بعد 1000 ياردة. كما أطيح بحاوية من الصلب وزنها 200 طن موضوعة على بعد نصف الميل من نقطة الانفجار وتمزق جزء منها. وبينما تمددت كرة النار ذات اللونين البرتقالي والأصفر وانتشرت، وارتفع عمود آخر – أرفع من السابق – عالياً وتسطح على صورة فطر.
أوبنهايمر وصرخات عالم وليد حزين
هل شعر أوبنهايمر بحزن في تلك اللحظات على رغم نجاح التجربة، مع ما يعنيه ذلك من حيازة الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية التي شاركت في البرنامج وبخاصة فرنسا وبريطانيا، بعدما رفض الاتحاد السوفياتي المشاركة، على أخطر سلاح حتى ذلك الوقت؟
حين ظهر في الأفق الدخان الرهيب المتصاعد من التفجير، ولد عصر جديد، العصر الذري الذي صار محفوراً منذ تلك اللحظة في الوعي البشري، وقد أطلق ويليام لورانس مراسل “نيويورك تايمز” وقتها على الانفجار “أولى صرخات عالم وليد”.
ولكسر من الثانية، كان الضوء المنبعث في موقع “ترينتي” لا يقارن مع أي ضوء آخر أنتج فوق سطح الكرة الأرضية من عمل البشر، هذا إذا استثنينا اللحظات التي جرت في عصور غابرة، من جراء سقوط نيازك ما، قبل بضعة آلاف من السنين، وقد كان من الممكن رؤيته من كوكب آخر خارج الكرة الأرضية.
وفيما كان الضوء يخفت، وترتفع سحابة الفطر، بدا وكأن أوبنهايمر ينخس في ضميره، ما دعاه لاسترجاع بعض العبارات التي قرأها في الفلسفة الهندوسية، وهو الذي أجاد اللغة السينسكريتية من قبل.
تذكر أوبنهايمر شطراً من نص “بهاجافادا جبتا” الهندوسي المقدس يقول: “علمنا أن العالم لم يعد كما كان سابقاً. بعض الناس ضحكوا، وآخرين بكوا، وبقي الأغلبية صامتين”.
ولم يلبث أوبنهايمر أن كرر عبارات مشابهة منها: “أنا أصبحت الموت/ مدمر العالم”، ومضيفاً “أعتقد أننا جميعاً فكرنا بذلك بطريقة أو بأخرى”.
أما التعليق الأقل اقتباساً لكن الأكثر رسوخاً في الذاكرة، فكان تعليق مدير الموقع كينيث برينبريدج الذي قال لأوبنهايمر: “أوبي الآن صرنا جميعاً أبناء عاهرات”.
ظل شبح القوة المدمرة المرعبة للأسلحة الذرية وما قد تستخدم فيه من ميادين ضرب النار وإهلاك الزرع والضرع، يطارد العديد من علماء مشروع مانهاتن لبقية حياتهم، وفي مقدمهم أوبنهايمر بنوع خاص.
بعد أقل من شهر من تجربة نيومكسيكو، قامت القوات الجوية الأميركية بالفعل بإلقاء قنبلتين ذريتين على اليابان، استهدفتا هيروشيما وناغازاكي، لتنتهي بهما الحرب العالمية الثانية.
كان التعليق الأول لأوبنهايمر عندما علم أن القنبلة استخدمت مرتين: “أعتقد أن القنبلة الثانية كانت غير ضرورية”.
هل تغيرت حياة أوبنهايمر بعد أن رأى الثمن الغالي من الضحايا البشرية على هذا النحو؟
غالب الأمر ذلك كذلك، ففي كتابهما المثير “برومثيوس الأميركي”، يتحدث مؤلفا الكتاب: كاي بيرد ومارتن ج. شيروين، عن لقاء جرى بين أوبنهايمر والرئيس الأميركي ترومان، عبر فيه الأول عن امتعاضه من قنبلة ناغازاكي، مخبراً الرئيس أنه شعر وكأن يديه ملطختان بالدماء.
وقتها بات من الواضح أنه ليس لدى ترومان مثل هذا الانشغال الأخلاقي، فقد كان هناك صراع جديد على الأبواب مع السوفيات، ولهذا أخبر ترومان مساعديه بأنه “لا يريد رؤية ابن العاهرة هذا في مكتبه ثانية” على حد قوله.
هل كلف هذا الموقف أوبنهايمر الكثير، وجعله يعاني لوقت طويل من مواجهة الدولة الأميركية القوية الفتية، الخارجة من الحرب العالمية الثانية منتصرة؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أوبنهايمر ومحاكمة بتهمة الشيوعية
اكتسب أوبنهايمر شهرة واسعة بعد انتصار أميركا في الحرب العالمية الثانية، وبخاصة في ظل الاعتراف به كصاحب فضل في التوصل إلى القنبلة النووية.
وعلى رغم ظهوره على أغلفة مجلتي “لايف” و”تايمز” اللتان مثلتا الحلم الأميركي في الداخل والخارج في ذلك الوقت، واختياره رئيساً للجنة الاستشارية العامة لمفوضية الطاقة الذرية، إلا أنه مضى في طريق وقف التجارب النووية وعارض بشدة تطوير القنبلة الهيدروجينية.
اعتبرت أصوات أميركية يمينية عدة أن ميول أوبنهايمر اليسارية، هي في الأصل شيوعية، وأنه لا يريد لبلاده امتلاك ذلك السلاح الذي ترددت الأنباء حول حصول نظام ستالين السوفياتي عليه، الأمر الذي جعله محطاً لسخط الخائفين من تنامي الخطر الشيوعي في الداخل الأميركي كتيار سياسي، والقلقين من أن يحل الاتحاد السوفياتي ذات يوم، محل ألمانيا النازية؟
في ديسمبر (كانون الثاني) 1953، تسلم أوبنهايمر، وهو في معمله بجامعة برينستون، خطاباً من لجنة مجلس الشيوخ الأميركي يتضمن أربعة وعشرين اتهاماً.
كانت خلاصة هذه الاتهامات أنه ليس صالحاً للعمل في لجنة الطاقة الذرية، وأنه تقرر بناء على ذلك سحب الترخيص الذي كان ممنوحاً له بالإطلاع على الوثائق السرية.
بدت محاكمة أوبنهايمر قائمة بأثر رجعي، لا سيما أنها قامت على أساس أنه كان على صلة بمنظمات يسارية أميركية قبل التوصل إلى القنبلة الذرية، وهو اتهام في غير موضعه، وبخاصة في ضوء معرفة الجنرال ليزلي غروفز هذه الاتصالات من قبل.
خلصت المحكمة إلى اعتبار أوبنهايمر خطراً على أمن الولايات المتحدة، وأدانته ضمن تقرير كبير، سوف يعرف في التاريخ الأميركي باسم “مسألة أوبنهايمر”.
في مؤلفه الكبير “روبرت أوبنهايمر… حياة في داخل المركز” يحدثنا المؤلف الإنجليزي راي مونك أستاذ الفلسفة في العديد من كبريات الجامعات البريطانية عن الظلم الذي وقع على أوبنهايمر في تقديره.
يدفع مونك تهمة الخطر الذي يشكله أوبنهايمر على الأمن القومي الأميركي، معتبراً إياه ضحية من ضحايا المكارثية، حين طارت اللوائح تحمل الاتهامات شرقاً وغرباً بالشيوعية والتواصل مع السوفيات.
ظل أوبنهايمر موضوعاً تحت المراقبة على مدار تسع سنوات كاملة من جانب عناصر مكتب التحقيقات الاتحادي، ولم يشفع له ما كتبه مفكرون كثيرون ينتمون لعقائد سياسية شتى دفاعاً عنه.
كانت إشكالية أوبنهايمر الحقيقية، دعوته لعدم احتكار أميركا أو أي طرف دولي السلاح النووي، مؤكداً أنه حين تنتشر الخبرات النووية، وتمتلك أطراف متعددة هذا السلاح الفتاك، سوف يرتدع الجميع، وهو ما كان يعتبر في زمن المكارثية القاتلة معادلاً لتهمة الخيانة العظمى.
في كتابه المعنون Timebends: A Life، تطرق الكاتب الأميركي الشهير آرثر ميلر لتفاصيل لقاء جمعه مع أوبنهايمر، وكيف أنه كان يشعر باليأس والحزن الشديد.
لم يكن حزن أوبنهايمر بحسب ميلر سببه إصابته بسرطان الحنجرة، بل من جراء اللحظة التي رأى فيها بعينيه ما يمكن أن يسببه اختراعه من دمار للبشرية.
في عمر الثالثة والستين، وقد كان ذلك في عام 1967، توفي أوبنهايمر من جراء سرطان الحنجرة، ويوم جنازته قال جورج كينان الدبلوماسي الأميركي الشهير، الذي أدار معركة بلاده مع السوفيات: “الحقيقة هي أن حكومة الولايات المتحدة الأميركية لم يتح لها يوماً عنصر يعمل في خدمتها أشد إخلاصاً من أعماق قلبه بأكثر من هذا الرجل”.
(function(d, s, id) {
var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0];
if (d.getElementById(id)) return;
js = d.createElement(s); js.id = id;
js.src = “https://connect.facebook.net/en_US/sdk.js#xfbml=1&version=v3.0”;
fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs);
}(document, ‘script’, ‘facebook-jssdk’));