تلسكوب جيمس ويب الفضائي هو مرصد فضائي عالي القدرة، مصمَّم لمتابعة تكوين النجوم والكواكب وتطور المجرات، اقترح في العام 2007 باعتباره مرصداً يكلف مليار دولار، وأُطلق عام 2021 بعدما كلف 10 مليارات دولار، إذ يختلف عن التلسكوبات الأخرى الموجودة في محيط الغلاف الجوي الأرضي في دقته العالية وقوته التي تتجاوز تلسكوب هابل الفضائي الأيقوني، الذي زود علماء الفلك بصور للمجرات البعيدة والثقب الأسود والكون منذ إطلاقه عام 1990 وحتى آخر تحديثاته عام 2009.
يعتقد علماء الفلك أن تلسكوب جيمس ويب، المسمى على اسم ثاني مديري “ناسا” (1961: 1968) سيساعد في مراقبة صور النجوم الأولى التي تشكلت بعد الانفجار العظيم، ويساعدنا أيضاً في فهم كيفية اندماج هذه النجوم وتشكيل المجرات وكواكبها، بالإضافة إلى البحث عن أية آثار للحياة على كواكب أو مجرات أخرى.
جوهرة التلسكوب هي مرآته التي يبلغ قطرها 6.5 متر، والتي تعتبر أكبر مرآة ترسل إلى الفضاء على الإطلاق، إذ فاقت مرآة هابل البالغة 2.4 متر، وهذه المرآة التلسكوبية الضخمة صنعت من البريليوم المطلي بالذهب، أو بالأحرى 18 قسماً سداسياً، كل منها بحجم طاولة كبيرة، وتدعم هذه المرآة التي تشبه زهرة عباد الشمس أو عش النحل في شكلها أكثر من 1200 محرك لالتقاط أدق التفاصيل في الفضاء.
هذه المرآة التي التقطت الصور التي نشرتها وكالة ناسا شكَّل بناؤها تحدياً حتى تستطيع التقاط صور ملونة للمجرات بهذه الدقة العالية. فبشكل علمي بحت؛ تحمل المرآة 4 أدوات ومعدات مصممة خصيصاً لالتقاط الأشعة تحت الحمراء بحساسية شديدة، مع العلم أن الأحمر هو أطول الأطوال الموجية ومعظمها في الأشعة تحت الحمراء، وبشكلٍ بسيط؛ تستطيع دقة هذه المرآة التقاط الصور بدقة 0.1 ثانية قوسية، أي تصوير عملة معدنية صغيرة على بُعد 40 كيلومتراً، أو كرة قدم على بُعد 550 كيلومتراً.
وما ساعد أيضاً على التقاط هذه الصور الدقيقة أن التلسكوب لا يدور حول الأرض نفسها، بل في نقطة تتساوى فيها جاذبية الأرض والشمس بعضها مع بعض، وتسمى “نقطة لاغرانج”، والتي تبعد 1.5 مليون كيلومتراً من الأرض، وهي ثلاثة أضعاف المسافة من الأرض إلى القمر، ما يمنحه نقطة قراءة أوضح للكون لم تصلها التلسكوبات السابقة، وليكمل حلقة واحدة من الدوران حول هذه البقعة، فإنه يقضي حوالي نصف عام أرضي.
هذا التلسكوب الذي بنته “ناسا” مع وكالة الفضاء الأوروبية، وجرى تجميع أجزائه بواسطة شركة Northrop Grumman الأمريكية لصناعات الفضاء والصناعات العسكرية يبلغ عمره الافتراضي 10 سنوات، أو بالأحرى هي المدة الأولية التي سيظل فيها مزوداً بالوقود ليعمل، كما شرح موقع Space العلمي المهتم بأبحاث الفضاء.
البحث عن كواكب صالحة للحياة
بعد الصور المبهرة التي التقطها التلسكوب الفضائي جيمس ويب، يبدو أن مهمته ما زالت في بدايتها. إذ يستعد علماء من حول العالم للاستعانة بأدواته ذات القدرات الفائقة لإنجاز مشاريع جديدة.
فيما كُشف في الأيام الأخيرة عن الصور المذهلة الأولى التي التقطها التلسكوب الفضائي جيمس ويب إلّا أنّ مهمّته في اكتشاف تاريخ الكون لاتزال في بدايتها، فقد حجز علماء من حول العالم مواعيد للاستعانة بهذه الأداة الجديدة الأكثر تطورا في مراقبة الكون.
وفي ما يلي لمحة عن مشروعين سيتولى التلسكوب من خلال أدواته ذات القدرات الفائقة إنجازهما في المراحل الأولية:
النجوم والمجرات الأولى
تبرز من بين أهم خصائص جيمس ويب قدرته على دراسة المراحل الأولى من تاريخ نشأة الكون بعيد الانفجار العظيم الذي حصل قبل 13,8 مليار سنة. وكلما كانت الأجرام بعيدة عن الأرض، استغرق ضوؤها وقتاً أطول ليصل إلينا، فالنظر إلى تاريخ الكون يعني إذاً العودة إلى ماضيه البعيد.
ويقول دان كوي، وهو عالم فضاء في معهد مراصد علوم الفضاء ومتخصص في نشأة الكون: “ننظر إلى هذه المرحلة المبكرة لنرصد أولى المجرات التي تشكلت عند نشأة الكون”.
واستطاع علماء الفضاء أن ينجزوا 97 في المائة من مرحلة العودة إلى الفترة التي تلي الانفجار العظيم، لكننا “لا نرى النقاط الحمراء الصغيرة إلا عندما ننظر إلى المجرات البعيدة جداً”، ويضيف العالم دان كوي: “نستطيع أخيراً بفضل جيمس ويب أن ننظر إلى داخل المجرات لنتعرف على مكوناتها”.
وبينما تتمتّع المجرات حالياً بأشكال حلزونية وإهليجية، كانت تلك الموجودة في مراحل الكون الأولى “متكتلة وغير منتظمة”، ويُفترض أن يكشف جيمس ويب عن أقدم نجوم حمراء فيها عجز التلسكوب هابل عن رصدها.
ويشير عالم الفضاء إلى مشروعين يعتزم جيمس ويب تحقيقهما، يتمثل أحدهما بمراقبة MACS0647-JD، وهي إحدى أبعد المجرات المعروفة وساهم هذا العالم في اكتشافها سنة 2013، فيما سيراقب التلسكوب في المشروع الثاني إيرندل، وهو أبعد نجم يُرصد على الإطلاق واكتُشف في آذار/ مارس.
وفيما أُدهشت البشرية بصور جيمس ويب الأولى التي التقطها التلسكوب بالأشعة تحت الحمراء لأنّ الضوء المنبثق من الكون البعيد امتدّ إلى هذه الاطوال الموجية تزامناً مع توسع الكون، إلا أنّ العلماء يولون اهتماماً بالغاً كذلك لتقنية التحليل الطيفي.
ومن شأن التحليل الطيفي لضوء أحد الأجرام أن يكشف عن خصائص هذا الجرم، كدرجة حرارته وحجمه وتركيبته الكيميائية، فهذه التقنية هي إذاً بمثابة طب شرعي خاص بعلم الفلك، ويجهل العلم حتى اليوم الشكل الذي تبدو عليه نجوم الكون الأولى التي ربما بدأت تتكوّن بعد مئة مليون سنة من الانفجار العظيم.
ويقول كوي: “ربما قد نرى أشياء مختلفة بشكل كبير عند رصد جمهرة النجوم الثالثة التي يُفترض نظرياً أنها أكبر من الشمس بكثير ومكوّنة فقط من الهيدروجين والهيليوم”، وتعرضت هذه النجوم في النهاية إلى مستعر أعظم (انفجار نجمي هائل)، مساهمةً في إثراء الكون بالمواد الكيميائية التي كوّنت النجوم والكواكب الموجودة حالياً.
وينتاب بعض علماء الفلك شكوكاً في شأن إمكانية اكتشاف نجوم الجمهرة الثالثة، لكن ذلك لن يثني المتخصصين والعاملين في الفلك عن العمل لمحاولة اكتشافها.
كواكب صالحة للعيش!
واختير العلماء الذين سيديرون المشاريع العلمية الخاصة بجيمس ويب استناداً إلى عملية انتقاء تنافسية كانت مفتوحة أمام الجميع بغض النظر عن مستوى تقدّمهم في مسيرتهم المهنية، ومن بين من اختيروا أوليفيا ليم، وهي طالبة دكتوراه في جامعة مونتريال تبلغ 25 سنة. وتقول لوكالة فرانس برس: “عندما بدأ الحديث عن التلسكوب لم أكن قد ولدت حتى”.
ويتمثل هدف ليم بمراقبة كواكب صخريةتتشابه في الحجم مع الأرض وتدور حول نجم يحمل اسم “ترابيست – 1”. وهذه الكواكب قريبة من بعضها لدرجة أنّه من على سطح أحدها يمكن أن تظهر الكواكب الأخرى بشكل واضح في السماء.
وتقول ليم إنّ “نظام عمل ترابيست – 1 فريد من نوعه”، مضيفةً أنّ “المعايير الموجودة في ترابيست 1 مواتية للبحث عن إمكانية وجود حياة خارج نظامنا الشمسي”، وتقع ثلاثة من كواكب “ترابيست – 1” السبعة في النطاق الصالح للحياة على مسافة ليست بعيدة أو قريبة جداً عن النجم، مما يوفر درجات حرارة مناسبة لتواجد المياه على سطحها.
ويبعد “ترابيست – 1” 39 سنة ضوئية فقط عن الأرض ويمكن رؤية الكواكب تمرّ أمام النجم، مما يجعل ممكناً رصد انخفاض اللمعان الذي يحصل بعيد عبور النجم واستخدام تقنية التحليل الطيفي للتعرف إلى خصائص الكواكب.
ولم يُعرف بعد ما إذا كانت هذه الكواكب تتمتع بأغلفة جوية، وهو ما تسعى إلى اكتشافه ليم، وفي حال كان للكواكب أغلفة جوية، فسيُصفى الضوء الذي يمرّ عبرها من خلال الجزيئات الموجودة فيه، ما يؤدي إلى بعث إشارات على جيمس ويب التقاطها.
أما الإنجاز الأكبر لأوليفيا ليم فسيكون في رصد وجود بخار الماء وثاني أكسيد الكربون والأوزون على هذه الكواكب، ويشكل “ترابيست – 1” هدفاً بالغ الأهمية لدرجة أنّ عدداً من الفرق العلمية خصصوا وقتاً لمراقبته. وتوضح ليم أنّ العثور على علامات تشير على أنّ الكواكب صالحة للعيش إن كانت موجودة بالفعل، سيستغرق وقتاً. وتضيف: “لكنّ كل ما نقوم به هذه السنة يشكّل خطوات مهمة نحو تحقيق الهدف النهائي”.
ماذا سيتعلم منه العلماء؟
لم تكن الصور الأولى لتلسكوب «جيمس ويب» الفضائي تخطف الأنفاس، فحسب، بل تحتوي أيضاً على ثروة من الرؤى العلمية والقرائن التي يتوق الباحثون إلى متابعتها، ومنها حزمة مهمة يتطلع العلماء إلى تعلّمها، إذ قدمت الصور أعمق صورة بالأشعة تحت الحمراء للكون البعيد حتى الآن، وقدمت الدوائر البيضاء والأشكال البيضاوية المأخوذة من مقدمة عنقود المجرات، وتسمى SMACS 0723، وتعود إلى 4.6 مليار سنة.
وقالت البروفيسورة، جين ريجبي، عالمة الفيزياء الفلكية في ناسا: «يمكن أن تعلّمنا الصورة المزيد عن المادة المظلمة الغامضة، والتي يُعتقد أنها تشكل 85% من المادة في الكون، وهي السبب الرئيسي لتأثير التكبير الكوني».
ويأمل العلماء أن يحطم «ويب» سجلات المسافات من خلال النظر إلى مئات الملايين من السنين الأولى بعد الانفجار العظيم، قبل 13.8 مليار سنة.
كواكب صالحة للسكن
التقط «ويب» توقيع الماء، جنباً إلى جنب مع دليل لم يكتشف سابقًا على السحب والضباب، في الغلاف الجوي المحيط بكوكب عملاق غازي ساخن منتفخ يسمى WASP-96 b يدور حول نجم بعيد مثل شمسنا.
وحقق التلسكوب ذلك عن طريق تحليل ضوء النجوم المرشح عبر الغلاف الجوي للكوكب أثناء تحركه عبر النجم، الذي يتم اكتشافه عندما يكون الكوكب بجانب النجم، وهي تقنية تسمى التحليل الطيفي لا يمكن لأي أداة أخرى القيام بها بالتفاصيل نفسها.
WASP-96 b هو واحد من أكثر من 5000 كوكب خارجي مؤكد في مجرة درب التبانة. لكن ما يثير علماء الفلك هو احتمال توجيه «ويب» إلى عوالم صخرية أصغر، مثل أرضنا، للبحث عن أجواء وأجسام مائية سائلة يمكن أن تدعم الحياة.
موت نجم
التقطت كاميرات التلسكوب ويب مقبرة نجمية، في سديم الحلقة الجنوبية، وكشفت لأول مرة عن النجم الخافت المحتضر في مركزه بتفاصيل واضحة لأول مرة، وأظهرت أنه مغطى بالغبار، وسوف يستخدم علماء الفلك التلسكوب «ويب» للتعمق أكثر في تفاصيل حول «السدم الكوكبية»، التي تنفث سحباً من الغاز والغبار، والذي سيؤدي إلى ولادة جديدة.
دراسة الغبار والغاز
يقع «ستفنز كونتت»، وهو مجموعة من خمس مجرات، في كوكبة بيغاسوسن وكان ويب قادراً على اختراق سحب الغبار والغاز في مركز المجرة للحصول على رؤى جديدة، مثل سرعة وتكوين تدفقات الغاز بالقرب من الثقب الأسود الهائل، وقال عالم الكونيات جون ماثر، إن مجرتنا درب التبانة ربما تم تجميعها من 1000 مجرة أصغر.
نجمي نورسي
لعل أجمل صورة هي صورة «المنحدرات الكونية» من سديم كارينا، وهي حضانة نجمية، ولأول مرة، كشف التلسكوب الجديد عن مناطق غير مرئية سابقاً لتشكيل النجوم، والتي ستخبر العلماء المزيد عن سبب تشكل النجوم بكتلة معينة، وما الذي يحدد العدد الذي يتشكل في منطقة معينة.
لماذا “تُهدر” المليارات لالتقاط صور للمجرات؟
منذ الإعلان الأول عن منجزات التلسكوب الفضائي “جيمس ويب” التابع لوكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، وبالتعاون مع وكالتي الفضاء الأوروبية والكندية؛ سرت موجة مرتفعة من الاهتمام في جميع أنحاء العالم -والعالم العربي بشكل خاص- حيث تحدث الجميع عن عمق هذا الكون واتساعه وقدرات التلسكوب الجديد، لكن إلى جانب ذلك أثير اهتمام البعض للتساؤل عن أهمية كل ذلك.
سيقول أحدهم إن عدد فقراء العالم قد قارب على المليار، وسيقول آخر إن نسب الإصابة بالسرطان ترتفع وما زلنا نكافح لإيجاد العلاج.. فلم لا ننفق 10 مليارات من الدولارات (ميزانية جيمس ويب) في مكافحة الفقر والمرض عوضا عن إهدارها على تصوير بعض المجرات في السماء؟
هذه الأسئلة مشروعة بالفعل، والواقع أن ارتفاع ميزانية جيمس ويب عاما بعد عام منذ بداية العمل به هدّد بنسف المشروع كاملا من قبل الكونغرس الأمريكي، فقد بدأت الميزانية بمليار دولار في عام 2000، ثم أخذت في الارتفاع مع تعقّد الأدوات المستخدمة في هذه المهمة العلمية، والأمر نفسه ينطبق على مشاريع علمية أخرى لناسا تزداد تكاليفها عاما بعد عام، مثل “سيتي” (SETI)، أو برنامج البحث عن ذكاء خارج الأرض، حيث اضطرت ناسا لتقليص ميزانيته عاما بعد عام، لأن نتائج هذا البحث باءت بالفشل إلى الآن.
هناك نقاط قوة تقف في صف هذا النوع من المهام العلمية، منها أن البحث العلمي في علوم الفلك والفضاء يقع ضمن نطاق “البحث العلمي الأساسي” (Basic Research)، ويعني منهجية البحث العلمي التي لا تحدد هدفا معينا، بل تستمر في اتباع الفضول الإنساني الطبيعي في الاستكشاف عبر طرح أسئلة بسيطة مثل كيف ولماذا.
وعلى الجانب الآخر يقف ما يسمى بـ”البحث العلمي التطبيقي” (Applied Research)، والذي يعني أن تستهدف منهجية البحث العلمي منتجا بعينه، كأن يكون تقنية جديدة أو أداة لعلاج مشكلة بعينها. ففي عالم الطب مثلا يشير نموذج البحث عن علاج بعينه للسرطان أو مضاد حيوي محدد لمرض ما إلى بحث علمي تطبيقي.
للوهلة الأولى قد تظن أن الأبحاث التطبيقية أهم من الأبحاث الأساسية في تطوير كل ما نحتاجه من تقنيات مفيدة، لكن البحث العلمي يشير إلى خطأ تلك الفكرة، فالأبحاث الأساسية كانت دائما سبب عدد أكبر من المنجزات التقنية.
على سبيل المثال، كان فريق بحثي أمريكي بقيادة علماء من جامعة هارفرد قد نشر ورقة بحثية بمجلة “ساينس” المرموقة قبل عدة سنوات، ليصل فيها إلى نتيجة تقول إن 80% من المضادات الحيوية الرئيسية المكتشفة بين عامي 1985 و2009 كانت نتاج بحث علمي أساسي، وهو ما يعني أن أحد العلماء في نطاقات المناعة مثلا أو علم وظائف الأعضاء أو النبات كان مستمرا في بحثٍ عام حول طبيعة عمله، ثم وجد بشكل جانبي إضافة لها فائدة مهمة.
من جانب آخر، فإن التطورات الثورية التي أحدثتها ميكانيكا الكم والنظرية النسبية في الفيزياء الحديثة -وهي علوم نظرية- كان لها دور جوهري في منجزات تقنية، مثل الهواتف الذكية، وبطاريات الليثيوم في الهواتف وفي السيارات الكهربائية المعاصرة، وإضاءة “الليد” التي حصلت على جائزة نوبل سنة 2014، هذا ولم نتحدث بعد عن دور النظرية النسبية في ضبط الأقمار الصناعية منظومات التموضع العالمية (GPS).
أضف إلى ذلك أن دراسة الكون بتلسكوبات مثل جيمس ويب تتطلب جمع أكبر قدر ممكن من التفاصيل الدقيقة عبر تقنيات ثورية في نطاقات البصريات ومعالجة الإشارات مثلا. فمنذ بداية عصر المسابير الفلكية شقت كل هذه الاختراعات طريقها إلى مجالات مختلفة تماما، كالإلكترونيات الاستهلاكية والاتصالات مثل “واي فاي” (Wifi)، والتكنولوجيا الطبية مثل التصوير بالرنين المغناطيسي.
هذا ولم نتحدث بعد عن نطاق بحثي واعد يمتلك اهتماما يوما بعد يوم هو تعدين الفضاء، حيث تساهم التطورات في علوم الفلك والفيزياء الفلكية في إعطاء رجال الاقتصاد والسياسة أدوات لتقييم الفائدة الاقتصادية للأجرام السماوية، ونتحدث هنا بشكل خاص عن الموارد التي يمكن الحصول عليها من القمر، أو كواكب مثل المريخ، أو الكويكبات القريبة من الأرض، وبشكل عام كل جرم يمكن حرث موارده أكان قريبا أم بعيدا.
قد تظن أننا نتحدث في فانتازيا أو أشياء لن تحدث الآن، لكن إذا تأملت خطاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن العودة إلى القمر قبل عدة أعوام، ستجد أنه يقول بوضوح إن الزيارة الأمريكية القادمة للقمر ستهدف إلى “حصاد الموارد القمرية” بجانب المهام الاستكشافية أيضا، والواقع أن دولا مثل الصين والولايات المتحدة الأمريكية تتنافسان على هذا النطاق حاليا.
أضف إلى ذلك أن هناك نشاطا متسارعا لشركات جديدة في هذا النطاق، مثل “ديب سبيس أنداستريز”، أو “بلانيتاري ريسورسز”، وهي ممولة بشكل رئيسي من دولة لوكسمبورغ، أما وكالة ناسا فقد بدأت بالفعل استثمارات ضخمة في نطاق “تعدين الكويكبات”.
هناك كويكبات كثيرة تمر سنويا على مسافة قريبة من الأرض تحتوي على كميات هائلة من معادن مهمة من “مجموعة المعادن البلاتينية” و”العناصر الأرضية النادرة”، وكلاهما مفيد في صناعة كل شيء تقريبا، بداية من البطاريات والإلكترونيات، ووصولا إلى تكرير البترول وإنتاج الطاقة.
يصل الأمر إلى حد أن يقول الفيزيائي الأمريكي الشهير نيل ديغراس تايسون: أول “تريليونير” في العالم لن يكون واحدا من أباطرة وادي السيليكون، بل “مُعدّن كويكبات”.
كيف يُقاس عمر المجرات في صور “جيمس ويب”؟
يقول الدكتور عمرو الزنط، مدير مركز الفيزياء النظرية بالجامعة البريطانية بمصر، في محاولة للإجابة على هذا السؤال، إنه يتم تحليل الضوء (تحت الأحمر في هذه الحالة) إلى طيف (مثل قوس قزح)، ثم يتم حساب الانزياح نحو الأحمر، أي إزاحة الخطوط نحو موجات أطول لهذا الضوء من خطوط طيفية معروف ترددها، مثل خطوط الهيدوجين.
والخطوط معروف ترددها لأنه يمكن مطابقتها، كمجاميع مزاحة نحو الأحمر، وهي خطوط معروفة من تجارب معملية استمرت أكثر من قرن في مجال علم الأطياف.
ويوضح الزنط في تعليق كتبه على صفحته الرسمية بموقع “فيسبوك”، أن “انحراف أو إزاحة الخطوط نحو موجات أطول أي أكثر إحمرارا، تعبر عن تمدد موجات الضوء مع الكون؛ ومن ثم يكون طول الموجات المرصودة أطول، ومن خلال قدر الإزاحة في الطول الناتجة عن هذا التمدد، يمكن حساب الزمن الفاصل بين زماننا وزمن انبعاث الضوء”.
ويضيف: “وهكذا يمكن تحديد أن بعض المجرات (المحمرة) في الصورة عمرها حوالي 13 مليار سنة والأخرى (المزرقة في الصورة) عمرها حوالي 4.5 مليار سنة”.
ويشير إلى أن من أهم سمات تلسكوب “جيمس ويب” بالفعل أنه يعمل في مجال الأشعة تحت الحمراء، فيستقبل مجمل الأشعة في المجال البصري المرئي المنبعثة من المجرات البعيدة، أي أنها انبعثت في المجال المرئي ثم تمددت إلى تحت الأحمر، ليستقبلها التلسكوب، وهكذا نرى مع “جيمس ويب” المجرات في نطاق الضوء العادي.
وذلك على عكس “هابل”، الذي يرصد الضوء المرئي، وهو معناه أنه يري ما أشعته المجرات في زمانها الحالي في نطاق فوق البنفسجي، مما يعمل على تصعيب مقارنتها بمجرات مجاورة نرصدها باستفاضة في المجال المرئي، ومن ثم يصعب مهمة اختبار نظرياتنا عن نشأتها وتطورها في إطار تاريخ الكون.
كيف يرى تلسكوب “جيمس ويب” الماضي؟
هل نظرت يوماً إلى السماء وشاهدت الشمس؟ هل شاهدت ضوء النجوم القادم من أعماق الفضاء؟ بالتأكيد فعلت ذلك، لكنك في الحقيقة، حين ترى الشمس لا تراها في حاضرها، بل في ماضيها!
فضوء الشمس، النجم الأقرب إلينا والواقع على مسافة تبلغ في متوسطها نحو 152 مليون كيلومتراً، يحتاج أكثر من 8 دقائق للوصول إلى الأرض، وبالتالي، فإن وجود الراصد للشمس على كوكب الأرض يجعل ما يراه الآن هو “ماضي الشمس”.. أو صورة متأخرة بأكثر من 8 دقائق على “حاضر الشمس”.
الآن، تخيل وجود نجم آخر على بُعد سنة ضوئية واحدة، (السنة الضوئية هي مقدار ما يقطعه الضوء من مسافة في سنة واحدة بسرعة تبلغ نحو 300 ألف كيلومتر في الثانية). إذاً، فوجودك في موقعك على الأرض يجعل ترصد المعلومات الواردة، والمحملة على الضوء القادم من ذلك النجم، بعد عام كامل. فحين تنظر إلى نجم يبعد عنك سنة ضوئية واحدة، فإنك تنظر إلى “ماضي” ذلك النجم.
13 مليار سنة
أعلنت وكالة الفضاء الأميركية “ناسا”، الاثنين، عن أول صورة رسمية لتلسكوب “جيمس ويب” الفضائي. تلك الصورة تعرض لقطات من عنقود نجمي يبعد عن كوكب الأرض مسافة مُقدرة بـ4.6 مليار سنة ضوئية (السنة الضوئية الواحدة تساوي 9.4 تريليون كيلومتر).
وهذا يعني أن تلك الصورة تعرض تفاصيل لمجموعة نجمية قبل تكوين الأرض في الأساس، فالصورة تقع في ماضي بعيد للغاية، قبل أن يتشكل كوكبنا الأزرق.
وقال رئيس وكالة “ناسا” بيل نيلسون إن سلسلة المجرات التي يُطلق عليها اسم “سمكس 0723” تعمل كتلتها المجمعة بمثابة عدسة للجاذبية تُضخم بدرجة كبيرة الضوء القادم من مجرات بعيدة خلفها.
ويعني ذلك أن عنقود المجرات الظاهر في الصورة يقوم بعمل “انحناء للضوء”، وهو أمر تحدث عنه العالم ألبرت آينشتاين حين قال في نظريته النسبية إن “الضوء يُمكن أن يتأثر بالجاذبية، وينحني في الفضاء حال وجود كُتل مُجمعة”، وتُظهر خلفية الصورة أيضاً مشاهد ضوئية خافتة لمجموعات نجمية تعود إلى أكثر من 13 مليار سنة، أي بعد الانفجار الكبير بنحو 800 مليون سنة فقط.
التقاط الصور
وأعلنت “ناسا” أنها ستنشر الصورة الأدق والأوضح والأعمق على الإطلاق، الثلاثاء، مع مجموعة صور أخرى لطيف الغلاف الجوي المحيط بكواكب خارج المجموعة الشمسية.. فكيف التقط تلسكوب “جيمس ويب” تلك الصور المذهلة؟
طورت وكالة الفضاء الأميركية بالتعاون مع نظيرتها الأوروبية والكندية تلسكوب “جيمس ويب” ليأتي خلفاً لتلسكوب “سبيتزر” الذي انتهت مدة خدمته قبل عامين، وكان يعمل بنفس تقنية تلسكوب “جيمس ويب”، وهي الرصد باستخدام الأشعة تحت الحمراء.
ويتكون التلسكوب الذي بلغت تكلفته (10 مليارات دولار) من مرآة مقعرة قطرها 6 أمتار ونصف تم طلاؤها بالذهب لتعكس الأشعة تحت الحمراء بصورة ممتازة. والمرآة المقسمة إلى 18 قطعة سداسية الشكل، مزودة بمستشعرات مهمتها تحليل تلك الأشعة غير المرئية القادمة لنا من أعماق الكون.
وتُعد تلك المرآة القطعة الأهم في ذلك التلسكوب، إذ أنها أكبر بكثير من مرآة تلسكوب “هابل” الذي يبلغ قطرها 2.4 أمتار.
وتستطيع مرآة تلسكوب “جيمس ويب” رصد مجموعة كبيرة من الأطياف الضوئية، منها طيف الأشعة فوق البنفسجية، والأشعة تحت الحمراء، وفي نطاق ترددي يتراوح ما بين الكبير جداً والصغير للغاية.
ويعني ذلك أن “جيمس ويب” يستطيع رصد الضوء القادم من النجوم البعيدة للغاية، وهو ضوء ذو طول موجي طويل للغاية، وتردد صغير.
ويحتوي التلسكوب أيضاً على مجموعة متطورة من الأدوات العلمية، والتي تشمل كاميرا الأشعة تحت الحمراء التي تعمل على معالجة الطيف الذي يتراوح من حافة الضوء المرئي وحتى الأشعة القريبة من تحت الحمراء، ومطياف من نوع خاص لرصد الطول الموجي، وجهاز لقياس الأشعة تحت الحمراء المتوسطة، علاوة على مجموعة من المستشعرات الأخرى التي تقوم بعزل الضوضاء اللونية الناجمة عن أكليل الشمس والنجوم الأخرى.
ووضع التلسكوب في مدار بيضاوي حول الشمس، يبقيه بعيداً عن الأرض وعن ظل القمر، بحيث يبعد في نقطته الأدنى من الأرض بنحو 250 ألف كيلومتر، فيما يبعد عنها في نقطته الأقصى بنحو 830 ألف كيلومتر.
وذلك البعد عن كوكب الأرض يُمكنه من رصد موجات الضوء غير المنظور، وهو ضوء له طول موجي كبير وتردد منخفض، من أعماق الكون بكفاءة مذهلة ودون تشويش، تجعله قادراً على تكوين صور من معلومات يحملها ضوء عمره أكثر من 13 مليار سنة، أي في بدايات الكون المبكرة للغاية.
ولتلسكوب “جيمس ويب” 4 أهداف رئيسة تشمل: دراسة تكون وتطور المجرات، وفهم الأنظمة الكوكبية، ودراسة أصل الحياة، علاوة على البحث عن الضوء المنبعث من النجوم والمجرات التي تكونت مباشرة بعد الانفجار العظيم.